كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {وَلَهُ الدِّينُ واصِبًا} [52]. معناه: دائما. يقال: وصب يصب: دام، ويقال: خالصا.
وقوله: {وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [53]. {ما} في معنى جزاء ولها فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن اللّه لأن الجزاء لابد له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم وإن لم يظهر فهو مضمر كما قال الشاعر:
إن العقل في أموالنا لا نضق به ** ذراعا وإن صبرا فنعرف للصبر

أراد: إن يكن فأضمرها، ولو جعلت {ما بِكُمْ} في معنى (الذي) جاز وجعلت صلته {بكم} و{ما} حينئذ في موضع رفع بقوله: {فَمِنَ اللَّهِ} وأدخل الفاء كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} وكلّ اسم وصل، مثل من وما والذي فقد يجوز دخول الفاء في خبره لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يجاب بالفاء، ولا يجوز أخوك فهو قائم لأنه اسم غير موصول وكذلك مالك لى. فإن قلت: مالك جاز أن تقول: فهو لى، وإن ألقيت الفاء فصواب.
وما ورد عليك فقسه على هذا، وكذلك النكرة الموصولة. تقول: رجل يقول الحقّ فهو أحبّ إلىّ من قائل الباطل، وإلقاء الفاء أجود في كلّه من دخولها.
والجؤار: الصوت الشديد، والثور يقال له: قد جأر يجأر جؤارا إذا ارتفع صوته من جوع أو غيره بالجيم، وكذلك {فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ}.
وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ} [57]. نصب لأنها مصدر، وفيها معنى من التعوّذ والتنزيه للّه عزّ وجلّ. فكأنها بمنزلة قوله: {مَعاذَ اللَّهِ} وبمنزلة {غُفْرانَكَ رَبَّنا} وقوله: {لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} {ما} في موضع رفع ولو كانت نصبا على: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون لكان ذلك صوابا، وإنما اخترت الرفع لأن مثل ذا من الكلام يجعل مكان لهم لأنفسهم ألا ترى أنك تقول: قد جعلت لنفسك كذا وكذا، ولا تقول: قد جعلت لك، وكلّ فعل أو خافض ذكرته من مكنىّ عائد عليه مكنيّا فاجعل مخفوضه الثاني بالنفس فنقول أنت لنفسك لا لغيرك، ثم تقول في المنصوب أنت قتلت نفسك وفى المرفوع أهلكتك نفسك ولا تقول أهلكتك.
وإنما أراد بإدخال النفس تفرقة ما بين نفس المتكلّم وغيره. فإذا كان الفعل واقعا من مكنىّ على مكنىّ سواه لم تدخل النفس. تقول غلامك أهلك مالك ثم تكنى عن الغلام والمال فتقول: هو أهلكه، ولا تقول: هو أهلك نفسه وأنت تريد المال، وقد تقوله العرب في ظننت وأخواتها من رأيت وعلمت وحسبت فيقولون: أظنّنى قائما، ووجدتني صالحا لنقصانهما وحاجتهما إلى خبر سوى الاسم، وربما اضطرّ الشاعر فقال: عدمتنى وفقدتنى فهو جائز، وإن كان قليلا قال الشاعر- وهو جران العود-:
لقد كان بي عن ضرّتين عدمتنى ** وعمّا ألاقي منهما متزحزح

هى الغول والسعلاة حلقى منهما ** مخدّش ما فوق التراقى مكدّح

وقوله: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [58]، ولو كان: ظلّ وجهه مسودّ لكان صوابا تجعل الظلول للرجل ويكون الوجه ومسودّ في موضع نصب كما قال: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} والظلول إذا قلت [96]. {مُسْوَدًّا} للوجه.
وقوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ} [59]. الهون في لغة قريش: الهوان وبعض بنى تميم يجعل الهون مصدرا للشىء الهيّن. قال الكسائىّ: سمعت العرب تقول: إن كنت لقليل هون المئونة مذ اليوم، وقال: سمعت الهوان في مثل هذا المعنى من بنى إنسان قال قال لبعير له ما به بأس غير هوانه، يقول:
إنه هيّن خفيف الثمن. فإذا قالت العرب: أقبل فلان يمشى على هونه لم يقولوه إلّا بفتح الهاء، كقوله: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وهى السكينة والوقار. حدثنا محمّد قال حدثنا الفراء قال حدثنى شريك عن جابر عن عكرمة ومجاهد في قوله: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} قالا: بالسكينة والوقار، وقوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ} يقول: لا يدرى أيّهما يفعل: أيمسكه أم يدسّه في التراب، يقول:
بدفنها أم يصبر عليها وعلى مكروهها وهى الموؤدة، وهو مثل ضربه اللّه تبارك وتعالى:
ثم فسّر المثل في قوله: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} [60]، ولو كان {مَثَلُ السَّوْءِ} نصبا لجاز، فيكون في المعنى على قولك: ضرب للذين لا يؤمنون مثل السوء، كما كان في قراءة أبىّ {وضرب مثلا كلمة خبيثة} وقراءة العوامّ هاهنا وفى إبراهيم بالرفع لم نسمع أحدا نصب.
وقوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى} [62]. أنّ في موضع نصب لأنه عبارة عن الكذب، ولو قيل: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} تجعل الكذب من صفة الألسنة واحدها كذوب وكذب، مثل رسول ورسل، ومثله قوله: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ}، وبعضهم يخفض {الكذب} يجعله مخفوضا باللام التي في قوله: {لما} لأنه عبارة عن {ما} والنصب فيه وجه الكلام، وبه قرأت العوامّ، ومعناه: ولا تقولوا لوصفها الكذب.
وقوله: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} يقول: منسيّون في النار، والعرب تقول: أفرطت منهم ناسا أي خلفتهم ونسيتهم، وتقرأ: {وأنّهم مفرطون} بكسر الراء، كانوا مفرطين في سوء العمل لأنفسهم في الذنوب، وتقرأ: {مفرّطون} كقوله: {يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} يقول: فيما تركت وضيّعت.
وقوله: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [66]. العرب تقول لكلّ ما كان من بطون الأنعام ومن السّماء أو نهر يجرى لقوم: أسقيت. فإذا سقاك الرّجل ماء لشفتك قالوا: سقاه، ولم يقولوا: أسقاه كما قال اللّه عز وجل: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَرابًا طَهُورًا} وقال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} وربما قالوا لما في بطون الأنعام ولماء السّماء سقى وأسقى، كما قال لبيد:
سقى قومى بنى مجد وأسقى ** نميرا والقبائل من هلال

رعوه مربعا وتصيّفوه ** بلا وبإ سمىّ ولا وبال

وقد اختلف القراء فقرأ بعضهم {نُسْقِيكُمْ} وبعضهم {نسقيكم}.
وأمّا قوله: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} ولم يقل بطونها فإنه قيل- واللّه أعلم- إن النّعم والأنعام شيء واحد، وهما جمعان، فرجع التذكير إلى معنى النّعم إذ كان يؤدى عن الأنعام أنشدنى بعضهم:
إذا رأيت أنجما من الأسد ** جبهته أو الخراة والكتد

بال سهيل في الفضيح ففسد ** وطاب ألبان اللقاح وبرد

فرجع إلى اللبن لأن اللبن والألبان يكون في معنى واحد، وقال الكسائي: {نسقيكم ممّا بطونه} بطون ما ذكرناه، وهو صواب، أنشدنى بعضهم:
مثل الفراخ نتقت حواصله

وقال الآخر:
كذاك ابنة الأعيار خافى بسالة ال ** رجال وأصلال الرجال أقاصره

ولم يقل أقاصرهم، أصلال الرجال: الأقوياء منهم.
وقوله: {سائِغًا لِلشَّارِبِينَ} يقول: لا يشرق باللبن ولا يغصّ به.
وقوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [67]. هي الخمر قبل أن تحرّم، والرزق الحسن الزبيب والتمر وما أشبههما.
وقوله: {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [68]. ألهمها ولم يأتها رسول.
وقوله: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وهى سقوف البيوت.
وقوله: {ذُلُلًا} [69]. نعت للسبل. يقال: سبيل ذلول وذلل للجمع ويقال: إن الذّلل نعت للنحل أي ذللّت لأن يخرج الشراب من بطونها.
وقوله: {شِفاء لِلنَّاسِ} يعنى العسل دواء ويقال: {فِيهِ شِفاء لِلنَّاسِ} يراد بالهاء القرآن، فيه بيان الحلال والحرام.
وقوله: {لِكَيْلا يَعْلَمَ} [70].
يقول: لكيلا يعقل من بعد عقله الأوّل {شَيْئًا} وقوله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} [71]. فهذا مثل ضرب اللّه للذين قالوا: إن عيسى ابنه تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا، فقال: أنتم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونون سواء فيه، فكيف جعلتم عبده شريكا له تبارك وتعالى.
وقوله: {وَحَفَدَةً} [72]: والحفدة الأختان، وقالوا الأعوان، ولو قيل: الحفد: كان صوابا لأن واحدهم حافد فيكون بمنزلة الغائب والغيب والقاعد والقعد.
وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا} [73]. نصبت {شَيْئًا} بوقوع الرزق عليه، كما قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتًا أَحْياء وَأَمْواتًا} أي تكفت الأحياء والأموات، ومثله {أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا} ولو كان الرزق مع الشيء لجاز خفضه: لا يملك لهم رزق شيء من السموات.
ومثله قراءة من قرأ: {فجزاء مثل ما قتل من النّعم}.
وقوله: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} وقال في أوّل الكلام {يَمْلِكُ} وذلك أن {ما} في مذهب جمع لآلهتم التي يعبدون، فوحّد {يَمْلِكُ} على لفظ {ما} وتوحيدها، وجمع في {يَسْتَطِيعُونَ} على المعنى.
ومثله قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وفى موضع آخر {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}.
ومثله {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحًا} و{يَعْمَلْ صالِحًا} فمن ذكره ردّ آخره على أوّله، ومن أنّث ذهب إلى أن {من} في موضع تأنيث، فذهب إلى تأنيثها، وأنشدنا بعض العرب:
هيا أمّ عمرو من يكن عقر داره ** جواء عدىّ يأكل الحشرات

ويسودّ من لفح السموم جبينه ** ويعر وإن كانوا ذوى نكرات

فرجع في {كانوا} إلى معنى الجمع وفى قراءة عبد اللّه- فيما أعلم- {ومنكم من يكون شيوخا} ولم يقل شيخا وقد قال الفرزدق:
تعشّ فإن واثقتني لا تخوننى ** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما ** أخيّين كانا أرضعا بلبان

فثنّى يصطحبان وهو فعل لمن لأنه نواه ونفسه.
وقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [75]. ضرب مثلا للصنم الذي يعبدون أنه لا يقدر على شىء، {وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ} أي يحمله، فقال: هل يستوى هذا الصنم {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} فقال: لا تسوّوا بين الصنم وبين اللّه تبارك وتعالى.
وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ} [80]. يعنى الفساطيط للسفر، وبيوت العرب التي من الصوف والشعر، والظعن يثقّل في القراءة ويخفّف؛ لأن ثانيه عين، والعرب تفعل ذلك بما كان ثانيه أحد الستة الأحرف مثل الشعر والبحر والنهر. أنشدنى بعض العرب:
له نَعَل لا تَطَّبِى الكلبَ ريحُها ** وإن وُضِعت بين المجالس شُمَّت

وقوله: {أَثَاثًا وَمَتَاعًا} المتاع إلى حين يقول يَكتفون بأصوافهَا إلى أن يَموتوا، ويقال إلى الحين بعد الحين.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}.
وقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}.
ولم يقل: البرد، وهى تقى الحرّ والبرد، فترك لأن معناه معلوم- والله أعلم- كقول الشاعر:
وما أدْرِى إذا يمَّمت وجهًا ** أريد الخير أيُّهما يلينى

يريد أىّ الخير والشر يلينى لأنه إذا أرد الخير فهو يتّقى الشرّ وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} وبلغنا عن ابن عباس أنه قرأ: {لعَلكم تَسْلَمُونَ} من الجراحات.
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}.
وقوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ}.
يعنى الكفارَ إذا قيل لهم، مَن رزقكم؟ قالوا: الله، ثم يقولون: بشفاعة آلهتنا فيُشركون فذلك إنكارهم {نِعْمَتَ اللَّهِ}.
{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاء شُرَكَاؤنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}.
قوله: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ}.
آلهتهم رَدَّت عليهم قولهم {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أى لم نَدْعكم إلى عبادتنا.
وقوله: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}.
فكسرت لأنها من صلة القول، ومن فتحها لو لم تكن فيهَا لام في قوله لكاذبون جعلها تفسيرًا للقول: ألقَوْ إليهم أنكم كاذبون فيكون نصبًا لو لم يكن فيهَا لام؛ كما تقول: ألقيت إليك أنك كاذب، ولا يجوز إلاَّ الكسر عند دخول اللام، فتقول: ألقيت إليك إنّك لكاذب.
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} من بعد إبرام. كانت تغزل الغزل من الصوف فتبرمه ثم تأمر جارية لها بنقضه، ويقال: إنها ريطة {تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} يقول: دغلا وخديعة.
قوله: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ} يقول: هي أكثر، ومعناه لا تغدروا بقوم لقلّتهم وكثرتكم أو قلّتكم وكثرتهم، وقد غررتموهم بالأيمان فسكنوا إليها 97 ب، وموضع {أدنى} نصب، وإن شئت رفعت كما تقول: ما أظن رجلا يكون هو أفضل منك وأفضل منك، النصب على العماد، والرفع على أن تجعل {هو} اسما، ومثله قول اللّه عز وجل: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} نصب، ولو كان رفعا كان صوابا.
وقوله: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ} [101]. إذا نسخنا آية فيها تشديد مكان آية ألين منها قال المشركون: إنما يتقوّله من نفسه ويتعلّمه من عائش مملوك كان لحويطب بن عبد العزّى كان قد أسلم فحسن إسلامه وكان أعجم، فقال اللّه عزّ وجلّ: {لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} [103]. يميلون إليه ويهوونه {أَعْجَمِيٌّ} فقال اللّه: وهذا لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن عربىّ.
وقوله: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ} [86]. فكسرت لأنها من صلة القول.
ومن فتحها لو لم تكن فيها لام في قوله لكاذبون جعلها تفسيرا للقول: ألقو إليهم أنكم كاذبون فيكون نصبا لو لم يكن فيها لام كما تقول: ألقيت إليك أنك كاذب، ولا يجوز إلّا الكسر عند دخول اللام، فتقول: ألقيت إليك إنّك لكاذب.
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا} [110]. يقول: عذّبوا. نزلت في عمّار بن ياسر وأصحابه الذين عذّبوا، حتّى أشرك بعضهم بلسانه وهو مؤمن بقلبه فغفر اللّه لهم، فذلك قوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} بعد الفعلة.
وقوله: {قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [112]. يعنى مكّة أنها كانت لا يغار عليها كما تفعل العرب كانوا يتغاورون.
{مُطْمَئِنَّةً} لا تنتقل كما تنتجع العرب الخصب بالنّقلة.
وقوله: {مِنْ كُلِّ مَكانٍ} من كلّ ناحية {فَكَفَرَتْ} ثم قال: {بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} ومثله في القرآن كثير. منه قوله: {فَجاءها بَأْسُنا بَياتًا أَوْ هُمْ قائِلُونَ} ولم يقل: قائلة. فإذا قال: {قائِلُونَ} ذهب إلى الرجال، وإذا قال: قائلة فإنما يعنى أهلها، وقوله: {فَحاسَبْناها حِسابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْناها عَذابًا نُكْرًا فَذاقَتْ}.
وقوله: {لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} ابتلوا بالجوع سبع سنين حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف.
والخوف بعوث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسراياه. ثم إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رقّ لهم فحمل إليهم الطعام وهم مشركون. قال اللّه عز وجل لهم، {كلوا} {وَاشْكُرُوا}.
وقوله: {لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ} [119]. كلّ من عمل سوءا فهو جاهل إذا عمله.
وقوله: {أُمَّةً قانِتًا} [120]: معلما للخير.
وقوله: {إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [124]. أتى موسى أصحابه فقال: تفرّغوا للّه يوم الجمعة فلا تعلموا فيه شيئا، فقالوا: لا، بل يوم السبت، فرغ اللّه فيه من خلق السموات والأرض، فشدّد عليهم فيه، وأتى عيسى النصارى بالجمعة أيضا فقالوا: لا يكون عيدهم بعد عيدنا فصاروا إلى الأحد. فذلك اختلافهم وتقرأ: {إنما جعل السبت} نصبا، أي جعل اللّه تبارك وتعالى.
وقوله: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} [126]. نزلت في حمزة لمّا مثّل المشركون بحمزة يوم أحد فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «لأمثّلنّ بسبعين شيخا من قريش» فأنزل اللّه عز وجل: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} ثم أمره بالصبر فقال: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} ثم أمره بالصبر عزما فقال: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [127].
وقوله: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} فالضّيق ما ضاق عنه صدرك، والضّيق ما يكون في الذي يتّسع مثل الدار والثوب وأشباه ذلك وإذا رأيت الضّيق وقع في موقع الضّيق كان على وجهين: أحدهما أن يكون جمعا واحدته ضيقة كما قال:
كشف الضيقة عنا وفسح

والوجه الآخر أن يراد به شيء ضيّق فيكون مخففا، وأصله التشديد مثل هين ولين تريد هيّن ليّن. اهـ.